ثُمَّ يقول المُصنِّف يقول: [ولا نقول لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة النظرية] فكلامنا السابق لا يعني أننا نعترض عَلَى أي أحد يستدل بمقدمات أو بكلام خفي؛ لأن الظهور والخفاء أولاً من الأمور النسبية، وحتى في الأمور الواضحة وضوحاً كاملاً تجد بعض النَّاس يقتنع بالأمر الخفي الدقيق ولا يقتنع بالأمر الظاهر الجلي.
فالذي يهمنا أن يقتنع الإِنسَان وأن يعرف الحق مثال ذلك: إذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا أستدل عَلَى عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ وآياته بخلق الإِنسَان، فإن الله تَعَالَى جعل له العيون وجعل له الفم، وأعطاه الأعضاء كالسمع والبصر وكذا وكذا، فهذا الاستدلال بالأمور الظاهرة أكثر وهو الذي ورد الاستدلال به في القرآن؛ لأن العوام وهم أكثر النَّاس ليسوا كلهم فلاسفة ولا كيميائيين ولا أطباء والعبرة واحدة، والتعمق فيها تعمق في نفس العبرة، ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد:8-10] كلام واضح ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَت))ْ[الغاشية:17-18] كلام واضح أيضاً فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ((وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)) [الأنبياء:32] آيات كثيرة جداً في القُرْآن تلفت النظر إليها وأن عَلَى الإِنسَان أن يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويتأمل في خلق السماوات والأرض في الجبال والنبات والإبل والدواب والشجر وغير ذلك.
لكن مع ذلك ما دام أن الاستدلال بالأدلة الخفية ينفع بعض النَّاس فلا بأس من أن نستخدم المقدمات الخفية ولا بأس بأن نستدل بها، ولذلك كما قلنا لما قيل: إن الإمام أحمد أو الإمام الشَّافِعِيّ أحدهما قَالَ: إن من الأدلة عَلَى وجود الله، وعظمته هذه البيضة التي ظاهرها عَظْم وباطنها الماء ثُمَّ يخرج منها هذا الحيوان وله منقار وله سمع وله بصر، وهذا المثال من الأمثلة الكثيرة جداً عَلَى وجود الله وعظمته وحكمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا المثال يذكره الإمام كمثال من أمثلة كثيرة، وربما ذكره لخفائه عَلَى بعض الناس، وكذلك هو من ضمن مدلول الآيات القرآنية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: (((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ))[عبس:24]؛ لأن كثيراً من النَّاس يأكل ولا يذكر أن يتفكر في هذا الشيء، إذاً فما الفرق بين الإِنسَان وبين الحيوان الذي يهجم عَلَى أي شيء فهو يأكل ولا يفكر ما أصل هذه الشجرة ومم تركيبها، المهم عنده أن يأكل، فالإِنسَان لا ينبغي ولا يجوز له أن يكون كذلك، فليتأمل في هذا الطعام كيف سخر الله عَزَّ وَجَلَّ له من زرعه وحصده وخبزه، حتى وصل إليه رزقاً مقسوماً مكتوباً في ساعة معينة، لم يكتب الله أن هذا الرغيف يقع في يد غيره، ولم يكتب الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون هذا الرغيف غداء أو فطوراً وإنما كَانَ عشاء.
إذاً ((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)) [عبس:24] تشمل كل هذه الأشياء، فتشتمل أيضاً الماء الذي يشربه، ثُمَّ ذكر الله تَعَالَى بعد تلك الآيات كيفية نشأة الطعام منذ أن شق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الأرض إِلَى أن يخرج منها الحب إِلَى أن أكله الإِنسَان وهكذا النظر في السماوات ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)) [الغاشية: 17، 18] والنظر في السماء كيف رفعت معناه: أن يتأمل الإِنسَان في عظمة هذه المخلوقات.
فبعض النَّاس قبل تطور العلم يتعجبون من القمر يرون أنه أكبر شيء في السماء فيتعجبون من ضوءه ومن كبر حجمه، ويستدلون بذلك عَلَى عظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الآن عرف النَّاس أن هذا القمر جرم صغير وأن هناك أجراماً أخرى أكبر وأعظم، لكن لأنها أبعد ترى أصغر، كل ذلك داخل في النظر والتفكر في السماوات، وإنما أصبح أكثر تفصيلاً، فلا يضر الجاهل الأول أنه لا يعرف حجم القمر.
ولم يزد المعاصر معرفته بما هو أكبر من القمر إنما العبرة واحدة، وهكذا سائر الآيات والأحاديث التي فيها ما يدل عَلَى إثبات أمر من الأمور.
((وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ)) [النحل:78] فكل إنسان تقرأ عليه هذه الآية يفهم ماذا تريد منه، لكن هناك أناس متخصصون متعمقون يدرسون الأعصاب، ويعرفون جهاز الإحساس عند الإِنسَان وكيف ينشأ عنده العلم بالأشياء، وكيف تسقط من ذاكرته الأشياء يتعمقون جداً،
فهذا الكلام قد ينفع بعض الناس، وقد لا يجدي معهم إلا هذه الأشياء المتعمقة، ولكن أكثر النَّاس يفهم هذا الاستدلال بمجرد الأمر الظاهر وكذلك نجد عالماً كبيراً جداً.
ومع هذا لما خلق من بطن أمه لم يكن يعلم شيئاً فمن الذي علمه وأعطاه السمع والبصر والفؤاد؟ إنه الله سبحانه تَعَالَى فالعبرة واحدة وإن أخذها بعضهم بالتفصيل وبعضهم بغير ذلك.